ولما توفي أبوه نشأ بينه وبين أخيه أبي العباس أحمد شحناء نالت من كل منهما فكتب إليه:
"ألا إن لله تعالي ألطافا موطأه الأكناف, كفيله بالائتلاف بلا خلاف, تقوض أوتاد الفتن, وتحسم شافه هاتيك الإحن, وحينئد فحظ أخيك, منك حظ من عاوده الشباب, بعد أن هرم وشاب, فهل لك في الحسني, والسبق إلي ما هو أسني, تميل إليك الأهواء, وتغتبط بك الأراء, ولو لم يكن فيه, الأسد فيه, وقد أسمع المكروه غير مره, وتجرع من سخف القول حلوه ومره. لكان كافيا أن تطوي عنه تلك الشقه. وأن يغلق إذا لم تكن مما فات كل ما عليه حقه, إلي ما خص به من بني جنسه, مما لو فصل لقيل يقرئك السلام مادح نفسه.
علي أني إن صدعت بالحق فلي اسوه حسنه في النبي الصالح يوسف بن يعقوب بن ابراهيم في قوله اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم, وما ظنك بمن تراه أعاديه في نحورها شجي يغص به منهم الظاعن والمقيم, وفي داخل عيونها قذي معوجا لا يكاد يستقيم, فرأيك في الرجوع إلي التناصف موفق إن شاء الله, ومتعين يصلح به المرء دينه ودنياه, عدولا عن أحدوثه نزع إليها البين وشيعها. والرحم كما علمت تدعو علي من قطعها, ثم إنك وإن خاطبتك الخطط الإماميه, واختصت بإيثارك الحظوه الهماميه, لا جرم أن الله أراد دون عمرو خارجه, فغير لائق أن تنافس في داخله أو خارجه, لكن المباهاه بما يخوله الإنسان بطر. والإعجاب به معرضه لانتباه القضاء والقدر, وإلا فكيف أحسده الاستنان بذلك المضمار, وقد علمت أنه معصم لم يكن الله ليدعه بغير سوار.
مع أني عبد الله ضربت لا محاله في ذلك بسهم علي أنف من ياباه ورغم, ومن الجاري علي السنه العامه, وأمثالهم السائره المطرده العامه, قولهم من أخد بالإصبع فقد أخد بكل اليد, وما خالف قط في هذا أحد, هذا ولم يجدني في رتبه فأقامني منها, ولا في خطه فعزلني عنها, ففيم الرجم بالغيب, والغضب من لاشيء غايه العيب بلا ريب.
فتلاف قبل التلف أوامرك, ولا تخذل بعد المصيبه بالسلف ناصرك, فأخوك أخوك لا تغرك الأصحاب, وابن أبيك لا تجد سواه لمواطن صعبه المسالك ضيقه الرحاب, فبعد النوم الانتباه, وبعد السكر الصحو الرافع للأشباه, فشد عليه يد الضنين, واحرص عليه حرص علي تحصيل العين:

بع بين الناس فإني   خلف ممن تبيع
واتخدني لك درعا   قلصت عنه الدروع
وارم بي كل عدو   إنني السهم السريع

فمثلك من دعي إلي مكرمه فأجاب, وكشف ظلمه هذا الليل المنجاب, وبقاؤك علي هذه الحال, القائده لحوادث شديده المحال, والاستماع لكثره القيل والقال, شأن ضعفه العقول من النساء والرجال, مما يفسد السريره, ويطمس البصيره, وفيه مع النساء والرجال, مما يفسد السريره, ويطمس البصيره, وفيه مع ذلك علي كلنا أو جلنا مطعن غير خفي, ومغمز لا يرضاه مؤمن تقي, وبالجمله ما أري لي ولك مثلا إلا قول شاعر بني زبيد:

أريد حياته ويريد قتلي   عذيرك من خليلك من مراد

وأنظر ما أوصي به عبد الملك بنيه, الفائزين بشرف الخلافه دون سائر ذويه:

أنفوا الضعائن بينكم وتواصلوا   عند الأباعد والحضور المشهد
فصلاح ذات البين طول بقائكم   ودماركم بتقاطع وتهدد
فلمثل هذا البين ألف بينكم   بتعاطف وتراحم وتود
حتي تلين جلودكم وقلوبكم   لمسود منكم وغير مسود
إن القداح إذا جمعن فرامها   بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت   فالوهن والتكسير للمتبدد

ثم كتابي هذا وإن كان جهم المحيا لايهمك أمره, فقد حسنت طويته وانطلق بعد بشره, وغير جميل أن يري مضيع الحقوق, مقابلا بره بعقوق, وربنا سبحانه هو المسئول في جبر هذا الصدع, واستصلاح ما في هذه الأرجام من الفرع, بقوته وحوله, ومنته وطوله. والسلام.
قال: فاستمر علي حاله يتكاشح ويتكاشر, ويعبس في وجه الرحم الموصوله ولا يتباشر, فلما زال ما بينهما قال:
ثم إن الله تعالي ألف بيني وبينه . وأقر بالألفه عيني عينه, إلي أن صار إلي رحمه الله تعالي والقلوب سليمه من المخائف, وشتان ما بين الأمن من تلك القطيعه والخائف, وكانت وفاته رحمه الله بعد وفاه أخي سيدي علي بنحو الشهر.
وفراق الأحباب من أعظم مصائب الدهر, فعظم بفقدهما المصاب, وتجرع سائر ذويهما من ذلك الحادث العلقم والصاب, إلا أن المصيبه كانت بسيدي علي أشد, فإنه رحمه الله بلغ منه الإمتحان الأشد, انقطع لبعض الملوك, وانتهج لخدمته سيباق المسلوك, وذلك بعد أن كان يعد في عمار ماجد الله بتدريس العلم, وممن حلاه سبحانه بزينه القبول فيه ورونق الجمع بين بهجه الحفظ وجوده الفهم, ثم جري عليه قدر أدي إلي قتله, وأفضي إلي حطه عن مراتب مثله, فتنفست الصعداء. وسوت الوحشه منه بين القرباء والبعداء. ثم ذكر مرتيثه السابقه.