برديات من ذاكره النهر
للشاعر / السيد جلال
دراسه للدكتور / حسن فتح الباب
تتفاوت قصائد هذا الديوان في مستواها الفني وفي قدرتها علي التعبير ۔ ولكنها تتوحد في الينبوع الذي تصدر عنه والأفق الذي تحلق فيه . فالرؤيه التي تسيطر علي معظم النصوص عدميه منسوجه بخيوط سوداء شديده القتامه ... نفق طويل حالك الليل لا شعاع ضوء في نهايته ۔ فنري الشاعر مختنقاً لا يملك إلا الصرخات ولا من مجيب . فالأبواب مسدوده في وجهه وليس إلا الضياع في عالم جهم بل جهنمي.
إنه عالم اللا جدوي الذي يذكرنا بقول سليمان الحكيم :
( كل الأنهار تصب في البحر ۔ والبحر ليس بملأن ) ..إنه قبض الريح ۔ ونسيج العنكبوت۔ولا مفر لا مفر!!
ولما كان الكتاب يعرف من عنوانه ۔ فإن أول قصيده في الديوان تحمل عنوان ( احتراق ) كما نجد العناوين الأتيه : تصدع – إعدام طفل – عيد الضحايا – قلب واجد – وماذا بعد ¿ _ إلام أنتظر – جبال الملح – وحشه – صفر علي صفر – وجع – هزيمه ويعبر عن هذه الرؤيه كثير من مفردات القاموس الشعري في الديوان إذ تدل علي النظره التشاؤميه ۔ وهي تبدأ من الحزن وتنتهي بالسجن والإعدام دون أن تلوح بارقه أمل في المقاومه والتشبث بالحياه ۔ ومن هذه المفردات أيضاً : مشنقه – مذبوح – وتتكرر كلمات التابوت والعفن والكفن :
- لكنني التابوت والمومياء
- والحصاد أتي فارغ السنبلات
- أغنيات رماد .... رماد
ويبلغ النغم الشاجي ذروته في قصيده ( إعدام طفل ) :
والناس حولها تدورٔ
مال النباتٓ في المدنٔ
مستنفراً عاري البدنٔ
كابن السفاح مٓمتْهْن
ملقيً عذاءً للمحنٔ
ودونما حتي الكفن
لا وزن قٓلٔ … ولا ثمنٔ
وفي قصيده ( الأحلام منحه ) حيث الصيحات المكتومه
أودُٓ أن أبوحْ
أن أفتُöت الهموم والجروحْ
أن أستبدلْ الهوي من صدري
بأخرٰ نظيفٔ
أن أشهقْ الشهقهْ
تسري في دميö
تاركهً قيودها
لكنُْني التابوت والمومياءٔ
وفي قصيده ( وماذا بعد ) يقطر الحزن وينفطر القلب :
سقطت بين شفاهي دمعه
الطعم مالح
أه يا عيني الحزينه
أه يا أهي السجينه
ولا تثريب علي الشاعر في رؤاه هذه التي تغمر نفس الملتقي بالكأبه ۔ فكل وعاء بالذي فيه ينضح كما يقول شاعر قديم ۔ وحسب السيد جلال ما تتسم به قصائده من صدق وشفافيه فهو ينفعل فيكتب ولا يفتعل مثل بعض أبناء جيله بدعوي التجديد والخروج علي المألوف . فإذا كانت عين شاعرنا لا تقع إلا علي الجانب المظلم من الواقع المشهود ۔ فإن كثير من الشباب يشاركونه هذه الرؤيه ۔ ويصدرون مثله عن الإحساس المشبوب بالحزن والألم ۔ لعجزهم عن مقاومه الظروف الصعبه التي تقف حائلا دون تحقيق أمالهم في حياه كريمه يستحقونها ومستقبل مشرق يليق بمواهبهم وكفاحهم في سبيل يوم أجمل وغد أفضل . وهم يرون أمامهم من ينعم بطيبات العيش دون كدح أو عناء ۔ فقد انقلبت القيم والمعايير الأخلاقيه والاجتماعيه السديده رأسا علي عقب منذ بدء عصر ما يسمي بالانفتاح وهو في حقيقته انغلاق للمعاني النبيله والمثل العليا التي ينهض بها الوطن والمواطن .
ولا يقتصر هم السيد جلال علي مشاهده المفارقه الصارخه بين الفئات والطبقات الاجتماعيه ۔ فهو مهموم أيضا بما يعانيه وهو ورفقاؤه من قهر سياسي ۔ حتي أن الحب أصبح من المحرمات والمحذورات فتراه يصرخ أو يئن حين يدهمه ممثلو السلطه وهو يسير مع حبيبته في الليل أو في وضح الشمس أو في ظلال الغروب يتأملان في تجليات الطبيعه ۔ وينعمان بأنبل عاطفه إنسانيه :
فلا غرو أن ينسحب هذا الشاعر المنذور للتغني بالحب والحياه والأمل من المجتمع ويلوذ بعالمه الداخلي ۔ متقوقعا علي ذاته ۔ مجترا يأسه بعد أن حاصرته السدود والقيود كأنه ارتكب إثما فجوزي شر الجزاء عن جرمه . ومن ثم نراه يناجي وطنه ويبث إليه أحزانه ومواجعه وقد أمسك بقيثارته الشجيه يعزف عليها ألحانه الباكيه .
معزوفات للحب
وعلي الرغم من هذا الطقس المأساوي الذي يغلف الديوان فإن ثمه شعاعه متوهجه في قصيده بعنوان ( إلام أنتظر ) وقصائد قليله أخري استوحي فيها الشاعر عاطفه الحب فأضاءت بين السطور ۔ ووجدنا لأول مره معاني داله علي الإحساس بجمال الحياه وسحرها من خلال هذه العاطفه التي تخفق في حنايا العشاق فتجعل الوجود أفقا نورانيا . وهكذا تتلألأ في النصوص مفردات مثل الفرحه والشوق وضفاف النهر ويعلن الشاعر في افتتاح القصيده المشار إليها أنه ولد من جديد وخرج من تابوت الأحزان بعد أن عرف الحب طريقه إلي قلبه الحزين :
خلصت روحي من سبات طال بي
كرفات أهل الكهف
كنت الجنين ببطنهö
ما زال ينتظر المخاض
وصرخه كبتت ليعلنها حياه
وينساب اللحن هادئا صافيا مصورا مفاتن المحبوبه التي بدلت صاحبه سعاده بعد شقاء وجعلنه يري ما لم يكن يري من جماليات الطبيعه ۔ ويمتزج حسن ملامحها بألوان النهر ۔ وصوتها بخرير الموج ۔ وكأنه يهيم في سماوات حلم بهيج :
هيأت نفسي للخروج ö
إلي ضفاف النهر أسمع صوتها
وأري ملامحها مجسمهً
تشكلها أنامل موجهٰ
وتلون العينين منها فرحهٓ
لقد أن أن يخرج الشاعر من صحراء الجدب إلي واحه غناء وجنه تجري من تحتها الأنهار بعد أن فتحت له الحياه مغاليقها وغمرته نشوه الحب بلمساته السحريه :
بسطت خضار عيونها
عشبا طريا في طريقي مزهرا
كانت طيور فؤادها البيضاء
ترقص حول رأسي
ونصغي مع الشاعر مع مويجات حوار الحبيبه معه وقد توحدا في معزوفه متناغمه وضمها محراب أقاما فيه صلوات العشق :
بين الشروق وبيننا حب الحياه
بين الخلود وبيننا شوق وشوق
وحبيبتي أضحت تناديني
بصوت أثر وتلومني :
أغلقت عينك عن عيوني
أوصدت بابك في جبيني
ونسيت ما أرضعته لك من حنيني
وسكت عن غزل صريح
عن غناء كالترانيم صداه
بين الذاتي والموضوعي
يهيمن التعبير عن أعماق الذات حزنا وحبا علي ديوان السيد جلال ۔ فلا يمد بصره أو شعوره إلي الواقع الموضوعي بما يمور فيه من حركه الأحداث والأشخاص وما يغتلي فيه من صرا عات وتناقضات إلا في حالات نادره . فهو شاعر رومانسي جياش العاطفه ملتهب الأحاسيس مجنح الخيال حقوله الدلاليه كلها من أغوار النفس ومنحنياتها ودروبها ۔ وتمتزج أحيانا بمجال الطبيعه من حيث وقعها علي الذات الشاعره ۔ فهي مرأه تعكس انفعالات هذه الذات التي تقع عينها أحيانا علي واقع مرئي ولكنها لا تري منه إلا القذي باستثناء الصور المضيئه في بعض القصائد ومنها قصيده ( إلام أنتظر ) ومع ذلك فإن هذه القصيده تختتم بمشهد قاتم وهو بكاء نهر النيل لمأساه الخطيئه تمارس علي أمواجه أو شاطئه وصرخه الشاعر الباحث عبثا عن الخلاص من قيوده :
عيناك قد رأتا المراكبْ
سابحات كالطيور
مسبحات في الفضاء
حملت جوانبها رجالا سائرين
يمارسون شذوذهم
ويفتشون عن الخطيئه
في الشواطئ تحت أضواء القمر
إني سمعت النيل يبكي للمساءö
بأغنيات لم يرددها النهار
وسمعت قلبي في متاهات الضلوع
يصيح لن أبقي سجينا
بعدٓ في هذا القفص
ولا يخرج السيد جلال من الذاتي إلي الموضوعي إلا في بعض مقاطع من نصوصه وفي قصيده واحده بعنوان ( جبال الملح ) إذ استوحاها من مأساه العراق ۔ هذا الوطن العربي الكبير الذي ولدت فيه إحدي الحضارات الإنسانيه العظمي ۔ وقد كانت عاصمته بغداد منارا للعلم والفقه والشعر في عهد الدوله العباسيه ۔ وفي العصر الحديث تفجرت فيه ينابيع الذهب الأسود ليعدوا من أغني دول العالم إلي جانب ما يحظي به من ثروه زراعيه مستمده من نهري دجله والفرات ومن ثروه بشريه تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وتعانق فروعها أفاق التقدم علي مستوي الوطن والأمه والعالم أجمع .
ولما كان السيد جلال شاعر مرهف الإحساس فقد روعته مثل كل أبناء الشعب العربي من الماء إلي الماء تلك الغزوه الهمجيه الأمريكيه للعراق وتدميرها الأرض وهدمها ومن عليها بأحداث ألات الحرب الجهنميه ۔ ونهبها لثروات الشعب وكنوزه التراثيه بدعوي تحريره من الطغيان والقضاء علي أسلحه الدمار الشامل وازع من ضمير أو رادع من الدول الكبري أو من العرب الأشقاء أو المؤسسات الدوليه .
ويستهل الشاعر قصيدته بالبكاء علي ما أل إليه العرب من عجز علي رد المعتدي وضياع وهوان بين الأمم حتي أصبحوا مضغه في أفواه أعدائهم :
في تلك الأونه الصعبه
لم يتبقي أنا شيء يذكر
خلع الأهلون سراويل دواخلهم
ماذا يفعل فينا من جاءوا
من خلف محيطات القرصنه اليوم ينادون
بأن نتعلم منهم ألوان الحريه
وإذا كان النص تعتوره بعض المفردات غير الشعريه مثل ( الصعبه ) و ( دواخلهم ) فإنه ما يلبث أن يسترد شيئا فشيئا جناحيه ليحلق في أفق فني لتصوير الفاجعه وجنايه القراصنه البغاه علي المدنيين المسالمين . ويبلغ الشاعر مستوي رفيعا عن قتل الأطفال الأبرياء مستلهما صوره من الواقع الذي نقلته وكالات الأنباء عبر المحطات الفضائيه ولا يشوب أبياته إلا نثريه البيت الأول :
المشفي مملوء عن أخرهö
بالجثث المحروقه والأفئده الغرقي
في ماء الرعب
وبقايا لعب الأطفال
وبعض قصاصات من أشرطه
حمراء وصفراء
وضفائر منزوعه
وأكف مغمضه
تمسك رايات : يحيا الوطن
ويتحول الشاعر من هذه اللوحه الحزينه التي رسمها لمذبحه أطفال بغداد بأسلحه تتار القرن الواحد والعشرين ورعاه البقر إلي صوره أخري لأجداد هؤلاء الأطفال وبني أمتهم الذين شادوا صرح المجد العربي ۔ ورفعوا أعلام الجهاد في سبيل حريه العقيده والعدل بين الناس دون تفريق بينهم بسبب العرق أو اللون ۔ فيذكر أسماء القاده العرب الميامين بدءا من الأمام الفارس علي ابن أبي طالب حتي صلاح الدين ۔ كما يذكر الملك البابلي نبوخذ نصر الذي انتصر علي اليهود المعتدين وسباهم كما تشهد بذلك اللوحه الحجريه التي كانت في متحف بغداد وسرقها عملاء الصهيونيه في أثناء غزو العراق :
يا بن أبي طالب
من صار المغلوب
ومن صار الغالب
فنبوخذ نصر قد صار اليوم قتيلا
ودماء التاريخ المذبوح سيول
قد ملأت أفئده الأمه
الخصائص الأسلوبيه
يبني السيد جلال قصيدته في معظم شعره بالصور ليحقق بذلك الإبداع الفني فينجح أحيانا ولا يصيب في بعض الأحيان ۔ وهو يستعين بمشاهد من الطبيعه في تصوير مشاعره . وينتمي أسلوبه إلي تيار الوعي الفني والتداعي الحر ۔ فيخرج من الحاضر إلي الماضي أو من الماضي إلي الحاضر ۔ في تلقائيه يسيغها المتلقي ولا يمل من الإطاله والاستطراد لأنهما يصدران من بؤره الشعور الداخلي لا من الخارج ۔ ويتبين ذلك في قصيده ( الأحلام منحه ) وقصيده ( إلام أنتظر ) :
صاح المسيح
الريح تحصد الحمامات
وتدفن الهديل
والهيكل أستباح خدعه الصهيل
بعد رحيل الركب والأمكنه
بعد وداع الحلم والأزمنه
ولا يشوب هذا المقطع إلا استعمال كلمه خدعه إذ جاء معناها شديد الغموض . كما وظف الشاعر شخصيه المسيح في قصيده أخري باسم ( يسوع ) ۔ واستعار عصي موسي في القصيده المشار إليها ۔ واستدعي شخصيات النبي يعقوب والإمام علي ابن أبي طالب ونبوخذ نصر وبني هاشم وهارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي في قصيده ( جبال الملح ) المستلهمه في مأساه غزو العراق وضمنها كلمتي ( البيت الأبيض ) :
ورحال صلاح الدين سيوف
وحراب في ظهر بني هاشم
هارون اليوم أسير
في البيت الأبيض دون ثياب
ويرسم الشاعر في قصيدته ( هروب مالك الحزين ) وقصيده ( وجهك مبتسم فوق سحابه ) ملامح من خريطه بلادنا ۔ فيسرد طرفا من تاريخها وأسماء بعض أطيارها ونباتاتها وأزهارها كالقطن وزهره النرجس
ونهر النيل ومفاتنه الحبيبه ويبدوا الطابع المصري في عنوان الديوان ( برديات من ذاكره النهر ) وفي القصيده الأولي التي يذكر فيها اسم طومان باي والي مصر الذي شنقه السلطان العثماني سليم الأول علي باب زويله بالقاهره سنه 1715م.
ويمزج السيد جلال صوره الخياليه بمشاهد واقعيه كما في قصيدته( خيال الحقل )وقصيده (الأسواق الحره) ويكتب القصيده الومضيه التي تتسم بإيجازها الشديد وتكثيفها مثل مقطوعات قصيده ( تمثال الحريه ) إذ تعد كل قصيده مقطوعه كامله۔وبعد فإن الشاعر السيد جلال يملك الموهبه وبعض الخبره وسوف يستعمل في قصائده القادمه قدراً أكبر من التقنيات الفنيه محققاً بذلك الصدق النفسي والواقعي والصدق الفني.