من ديوان
ديوان محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي (1214هى/1799م)
للشاعر
بديعي
المقامه الثالثه:
المقامه الزيتيه وتعرف بالصوريه
لما كنا بنابل, حضره الطاغيه والفئه الباغيه, حيث انتهت العماره واجتمعت قواعد الكفر الذين لهم الاشاره. والإنسان في بلدهم علي قدر ماعنده من المال يسوي, وبقدر ما يقل ماله ينحط ويهوي, جهارا ونجوي. ولما قدر الله سفرنا لتلك البلاد كنت للاسلام والمسلمين عنوانا, واتخذت الله ظهيرا والملائكه أعوانا, إذ المرسل عنوانه المرسل, وعما يقاسي من الكلف ومصادره القوم لا تسل. فيتعين أن يتكلف بقدر كلفه وزياده, ودخولهم للدار ورؤيتها كبارا أو صغارا أمر مسلوك وعاده. وعلي ذلك يقيسون الباقي. ولا يمكن صدهم عن الدخول حتي لايرون فقد أعجز داؤهم الراقي. وعلي قدر مايرون من التوسعه تكون المنزله من سمو وارتفاع أو انحطاط في ناحيه منعزله. فكنت أتكلف وأظهر من القراما المجازاه فيه علي خالق شديد القوي. فأمرت خدام الدار من النصاري أن يوقدوا الشمع في جميع قببها ومقاعدها ورتبها. ومن جمله مساكنها بيت ابن جلول الطيب, الذي أمطر عليه من سماء المذله كل وابل وصيب. فكان كلما أوقد الخديم الشمعه يطفيها, ثم في صندوقه يضعها ويخفيها. ويسترق الزيت من مصابيح الكنف والأبواب والقناديل, في مهانه تجتنبها الأراذيل. فصار الخديم يتلف زيت القناديل ويفقد, من عدم السليط الموقد. ولم يدر صاحب هذه الفعال, الذي جزاؤه الصفع بالنعال. فجلس بالمرصاد ليقبض هذا السارق, والخائن المارق. فسمعت بالدار ضجيجا, وصياحا وعجيجا. فبعثت من يأتيني بالخبر علي وجه الصحه, وعلي من هذه الصيحه, بل أردت الفحص عن ذلك جهدي, وأبدي في معرفه صاحب هذا الفعل ماعندي. فأحضرت جميع من معي من المسلمين صفا, وقلت لهم: إن لم تبينوا عما تسألون عنه فقد سمتم أنفسكم خسفا. خبروني من هذا المارق الذي أمسي من دناءته للمصابيح طارقا ولزيتها سارقا¿ فنظر بعضهم بعضا يمنه وشأمه, وقالوا: اصدعوا بالحق ولا تولوا أنفسكم كأبه ولا ملامه. ثم قالوا بلسان واحد وجواب متوارد: سارق الزيت لايخفي, فرائحته تنبيك عنه إذا تنكر واستخفي. وهذه الجماعه بين يديك مصفوفه, ورائحه الزيت معروفه. فقلت لهم: لقد أنصفتم فيما وصفتم, وعرفتم بما عرفتم, وإن هذا لهو عين اليقين ونجاه للمتقين, وفضيحه لسارقي الزيت المارقين. ثم أمرت من يتأمل الاصحاب, ويشم الاثواب, حتي وصل إلي شيخنا المذكور الأتي بكل فعل منكور. فوجد ثوبه موسوما, وخط الزيت بالشهاده علي سرقته مكتوبا وموسوما. فقلت له: ما هذا الخزي المؤبد, والعار الدائم المخلد¿ وكنت أتمني أن ينفي عن نفسه ذلك, ويأبي سلوكه تلك المناسك. فإذا به أمام ذلك الجمع اعترف, بما اقترف, وقال: إن إيقاد الشمع من السرف. فهممت أن أحكم فيه بحكم القاضي ابن سعيد, وما كان عندي ببعيد, فردني عن ذلك بعض الحاضرين بعد أن كانوا لفضيحته ناظرين.
أخبرني من عني بخبره, وتتبع عجره وبجره أن ذلك دأبه حيثما كان في المأدب. فتراه لفضاله الموائد جاذبا, لا يصعب عليه مرام في سرعه الازدراد والانتقام. سخر له كل مطبوخ لينه وعاصيه وأطاعه منه دانيه وقاصيه. واستلاؤه علي كل مسروق وإخفاءه ولو كان مثل المصباح ذا شروق, فهو إمام تلك الطريقه وفتاها, وخطيب جمعها كلما أتاها. فطرح ونبذ, وطرد بعدما جبذ. وخرج والزيت يتقاطر من أذياله, قد سربله الهوان بسرباله. في مهانه لا يتوقف عليه غرض, ولا يعبأ به في مسنون ولا مفترض.
ومن سقوط نفسه, ونحس نكسه, أنه كان يجلس مكشوف العوره في طاق, في هيئه رثه وثوب أخلاق. فيجتمع لرؤيه فضيحته وكشف الأسواق ذات ارتفاع, ليشاهدها كل من اشتري وباع, من أخلاط الرعاع. وشاع خبرها في المدينه, وصار النصاري يردون ويجتمعون لرؤيتها كيوم الزينه لغرابه ذلك في البلاد, ويبقي فضيحه للمسلمين بين العباد. فاستعملت الحيله في إنزالها وإلقائها. وأعطيت المصور حلوانا علي أن عاهدني أن لا يعود إلي ما فعل سرا ولا إعلانا.
|